أبصَرَ عماد مغنيّة النّور سنة 1962 في منطقة الشّياح في الضّاحية الجنوبيّة للعاصمة اللّبنانية بيروت. والدُه فايز ووالدتُه آمنة سلامة. هو الأخ الأكبر لشهيدين، الشهيد الأول ” جهاد” استشهد عام 1985 في قصف مدفعيّ على منزل سماحة السيّد محمد حسين فضل الله في منطقة بئر العبد، والثاني “فؤاد” مضى شهيدًا عام 1994 في تفجير اسرائيلي في محلّة صفير في الضاحية الجنوبية لبيروت.
عايشَ عماد مبكرًا انطلاقة الحالة الإسلاميّة في لبنان ووَعَى أبعاد الصراع وحقيقته في السّاحتين اللّبنانية والعربية وكذلك الإسلامية. التحق بدورات التّدريب المتخصصة في المجالين العسكري والأمني واطّلع على آليات عمل التنظيمات، وهو فتىً لم يبلغ من العمر الستة عشر عامًا بعْدُ.
شخّص العدوّ الأساس، حدّد الهدف، وسعى طيلة مسيرته الجهادية إلى تحويل المقاومة في لبنان من حالة جهادية إلى منظومة قادرة على إلحاق الهزيمة بالعدو وتحقيق الردع. وبعد تحقيق تحرير الجنوب عام 2000، حرصَ الحاج عماد على نقل تجربة “بناء المنظومة” إلى فلسطين أولاً، ثم إلى كل حركة مقاومة ضد قوى الاحتلال.
في الثالث عشر من شهر نيسان/ أبريل عام 1975، اشتعلت شرارة الحرب الأهليّة اللّبنانيّة من ساحة «البريد» في عين الرمانة. وعلى بُعد 50 مترًا من مطعم والد عماد مغنية، دوّى أزيز أولى طلقات الرّصاص. على دفّتَي طريق “صيدا القديمة”، الخط الفاصل بين الشيّاح وعين الرمّانة، كانت الحرب توغل في دم الأبرياء. من جهة، تمترس مقاتلو الكتائب والأحرار في عين الرمانة، وعلى المقلب الآخر حارب مقاتلو الحركة الوطنيّة والفصائل الفلسطينيّة.
هناك تسنّى لابن الثّلاثةَ عشر عاماً الاختلاط باليسار والأحزاب المُختلفة، دون الانتماء إلى أي منها. أمضى أيّامه يتعرّف على التّنوع الحزبي الذي أفرزته الحرب الأهلية في منطقة الشياح، حيث بلغ عدد مكاتب أحزاب الحركة الوطنية والفصائل الفلسطينية في تلك المنطقة ما يقارب الـ 45 مكتبًا منذ بدء الحرب الأهلية في لبنان. في ظل فوضى السّلاح، سعى عماد الفتى باحثًا عن انتماء يُمكنّه من توجيه السلاح نحو العدو الإسرائيلي.
تعرّف عماد على “أبو حسن خضر سلامة” [الشهيد على ديب] في مكتب منظمة فتح الملاصق لمنزله. انجذب الفتى الثّائر إلى الشاب المناضل. وكان الأخير سببًا في إشراكه في عدد من الدّورات العسكريّة في معسكرات “فتح” في العديد من المناطق، والمخيّمات الفلسطينيّة داخل بيروت وخارجها، … استطاع عماد التوغّل إلى البنية التنظيمية لفتح والتعرّف على آليات العمل الحزبي والهرمية المُحكمة. وعلى الرّغم من ضبابيّة المشهد وتعقيدات الساحة اللبنانية، كانت لعماد أهدافه الواضحة في عمله إلى جانب حركة فتح؛ المنظّمة الأقوى على السّاحة اللّبنانيّة وقتذاك. آمن عماد بالمقاومة نهجًا وبفلسطين قضيّةً.
انطلاقًا من بيئته المنزلية المتديّنة وحراك والدته في الميدان الثقافي والاجتماعي النسائي على مستوى الحالة الاسلامية، كان عماد الفتى يتردّد على مسجد “مسجد الامام الحسين” في الشياح، يتعرّف على الفتية من عمره ويدعوهم الى الدرس الديني الأسبوعي الذي بدأ ينتظم تارةً للنساء في منزل آل مغنية- الشياح وللفتية تارة أخرى. كما اختلط في تلك الفترة بمعظم المؤسّسين والناشطين الشباب في الحالة الاسلامية من كل الفئات العمرية والمستويات الدراسية، لا سيما الّذين كانوا يتردّدون إلى مسجد عواد في الغبيري ومركز “اتحاد الطلبة المسلمين”. مثّل “اتحاد الطلبة المسلمين” الواجهة العلنية لحزب الدعوة الذي كان نشاطه قد بلغ ذروته في العراق لمؤسسه سماحة السيد محمد باقر الصدر. حينها، شكّل الاتحاد في لبنان نواة عصرية لفتح النقاش الفكري والثقافي بين الشباب المتديّن.
بُعيد الاجتياح الاسرائيلي الأول سنة 1978 تحت عنوان ” عملية الليطاني”، بدأ عماد الإعداد العمليّ لقتال اسرائيل. وفيما كان السّلاح موجّهًا نحو الدّاخل اللبناني، كان عماد وأبو حسن سلامة على قناعة تامة أنّ هذا السلاح وجهته اسرائيل. حفرَ سماحة السيد موسى الصدر في وجدان الجماعة الشيعية وعيًا بضرورة قتال اسرائيل. فهيّأ السيد الصدر مجتمع المحرومين في لبنان لتبنّي نهج المقاومة، وحرّم عبور “الجدار الطّيب” للإستشفاء كي لا تصبح إسرائيل “جارةً حقيقيّة”.
كان الهدفُ المعلن من “عملية اللّيطاني” جَعْلَ الفصائل الفلسطينية، أهمّها منظمة فتح، تحت النار وخلق منطقة منزوعة السلاح وصولاً إلى نهر الليطاني. شارك عماد بوصفه منضويًا في فتح تحت إمرة أبو حسن سلامة (علي ديب) في بعض العمليات اللّوجستية العسكرية المحدودة في الجنوب اللّبناني، مسجّلاً بذلك تماسّه الأول المباشر في ساحة المعركة مع العدو الاسرائيلي.
عقب اختفاء السيد موسى الصدر في آب/ أغسطس 1978، اتّجه عماد إلى خيار تدريب “الشّباب المؤمن”، نواة المقاومة الإسلامية في حزب الله، على المستويين الأمني والعسكري، وذلك في معسكرات منظمة فتح.
تزامنًا، أحدثَ انتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران، وعودة الإمام روح الله الخميني من منفاه، وقعًا كبيرًا على الجماهير، التي رأت في الثورة انطلاقةً لصحوة إسلاميّة جديدة. وَجَدَ عماد مغنية، الفتى الثاثر، في شخص الإمام الخميني قائدًا ملهمًا يحاكي تطلّعاته الثورية. وكما الكثير من الشباب المؤمن، اتجّه عماد الى طهران لتتسنّى له فرصة اللقاء بالقائد الإسلامي المَهيب الذي لاقت ثورته صدًى واسعًا في جميع أنحاء العالم، خاصة في السّاحتين اللّبنانية والفلسطينية المُناضلتين ضد عدوّهما المشترك: اسرائيل. تباعًا، انتظمت زيارات عماد مغنية الى”إيران الثورة” برفقة سماحة السيد محمد حسين فضل الله بوصفه مرافقًا أمنياً له. هناك، بدأ الحاج عماد بنسج علاقاته التأسيسية مع الحرس الثوري الإيراني، التي أنتجت فيما بعد مجموعة من التنسيقات في العمل الأمني والعسكري.
مع بداية الثمانينيات، ازداد الوضع الأمني في لبنان تفلّتًا. في تاريخ 01.11.1980 ، تعرّض سماحة السيد محمد حسين فضل الله لمحاولة اغتيال فاشلة استهدفت موكبه بالأسلحة النارية، بالقرب من منزله الكائن في منطقة الغبيري. كان لعائلة مغنية علاقة وثيقة بالسيد فضل الله، تعود بداياتها إلى العام 1976، حيث نظّمت الحاجة أم عماد، الناشطة في المجال النسائي الإسلامي، بالتعاون مع لجنة حسينية الشياح، سلسلة دروس دينية خلال الموسم العاشورائي، قدّم إحداها السيد محمد حسين فضل الله.
إثر إعلان استشهاد سماحة السيد محمد باقر الصّدر وأخته آمنة الصدر (بنت الهدى) في نيسان 1980، شهدت الحالة الإسلامية نوعًا من الغليان تبعها محاولات متكرّرة لاغتيال السيد فضل الله (المرة الثانية في 18.11.1981، والمرة الثالثة في 8.3.1985). الأمر الذي دفع بعماد وثلّة من رفاقه نحو تشكيل درع أمني لحماية السيّد فضل الله. دأب عماد على مرافقة السيّد فضل الله في غالب جولاته، خصوصًا الخارجيّة منها كأداء فريضة الحج عاميّ 1980 و1981.
شكّل حدث استشهاد السيد الصدر محطّة بارزة في وعي الجماعة الشيعية لقدرتها وفاعليتها في الميدان، حيث خاض عماد ورفاقه تجربة ناضجة سعت فيها المجموعات والفصائل الإسلامية إلى تنسيق جهودها وتنظيم عملها لتحصين ساحتها ودرء المخاطر عنها. على إثرها، سُجّلت بدايات تأسيس المجموعات الأولى في العمل الأمني- العسكري.
عشيّة الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، ولحظة علمهما بالخبر، عاد الحاج عماد والسيد محمد حسين فضل الله من طهران إلى بيروت. وفي طريق العودة، أوقف عناصرُ من حزب الكتائب السيد فضل الله وعماد، واحتجزوهما مدة 48 ساعة، ثم أطلقوا سراحهما بوساطة من المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى. انضمّ عماد فور وصوله إلى المجموعات المقاتلة من الإسلاميين والفصائل الفلسطينية المنتشرة على طول الخط الممتدّ من محور كليّة العلوم جنوب شرق بيروت، ومن الكوكودي غرب الضاحية الجنوبيّة، وصولاً إلى شاتيلا.
في منطقة الغبيري، أصيب عماد بقدمه، لكن الإصابة لم تُثن من عزيمته. بُعيد مغادرة منظمة التحرير لبيروت، سارع عماد بحكم علاقاته مع عناصر فتح إلى الاستفادة من السّلاح الذي خلّفه المقاتلون الفلسطينيون. وعلى الرّغم من صعوبة الظّروف تمكّن الحاج عماد، وبمساعدة ثلّةٍ من رفاقه، من نقل السلاح إلى الجنوب اللّبناني في أوج الحصار الاسرائيلي لبيروت العاصمة.
وفيما كانت وجهة القوات الإسرائيلية نحو بيروت، كان عماد يتطلع جنوبًا إلى ما وراء الخطوط، إذ شرع في التّخطيط لسلسلة عمليات صادمة للوجود الاسرائيلي. أدرك عماد مبكرًا أنّ نصب الكمائن، وقنص الجنود وقصف التجمعات لا تكفي وحدها لإنذار العدو وإيلامه. وجّه الحاج عماد بوصلة السّلاح إلى إسرائيل بإرساء قواعد جديدة في طبيعة القتال، متعاليًا فوق كلّ متاهات الاقتتال الدّاخلي اللّبناني، عندَها عرف العدوّ أنّه تورّط في حرب عصابات لا نهاية لها. حربٌ سرعان ما بدأت في بيروت الغربيّة، ولم تنته في الجنوب اللبنانيّ.
في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 1983، وجّهت الإدارة الأميركية الإتهام لعماد مغنيّة في مسؤوليته عن تفجير السّفارة الأميركيّة في بيروت، ومعها مقرّ قيادة المظليّين الفرنسيين، وقاعدة قوّات مشاة البحريّة الأميركيّة “المارينز”. وضع مكتب التحقيقات الفيدراليّة “FBI” جائزة قدرها 25 مليون دولار للقبض عليه. لكن الاتهام لم يثن من عزيمة مغنيّة الذي أصر على إنزال الهزيمة بالإسرائيلي، فبُعيد عامٍ من عمليّة الإستشهاديّ أحمد قصير، هاجم استشهاديّ آخر مقرّ المخابرات الإسرائيليّة في صور. لم ينجح الإسرائيليون في إيقاف الاستشهادي الذي حوّل المبنى إلى ركام متطاير.
اعترفت إسرائيل حينها بمقتل 29 جنديًا من صفوف جيشها جراء العمليّة.
شكّل هذا النمط من العمليات الأمنية العسكرية صيتًا مكثفا لـ عماد مغنية في الميدان اللبناني بين المقاتلين الاسلاميين من كل التوجهات وأيضًا بين المقاتلين الفلسطينين وأيضا القيادات الفلسطينية. مع خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وبدء عملها التنسيقي من بلاد المنفى، أضحى أبو حسن سلامة (علي ديب) صلة الوصل الأساسية بين القيادات الفلسطينية والميدان اللبناني. وبهذا انتقلت العلاقات التنسيقية بين الحاج عماد “الثوري- الاسلامي” مع فتح إلى مستوى القيادات الفتحاوية بشخص أبو عمار “ياسر عرفات”.
وفي المقلب الآخر، أنتجت العلاقات التي نسجها عماد مع الحرس الثوري الإيراني وكذلك تعرّفه على الشخصيات الإيرانية المقاتلة التي بدأت خوض ميدان “الحرب المفروضة” مجموعةً من التنسيقات أهمّها وأوّلها وليس آخرها التأسيس لدورات أمنية- عسكرية تٌخرّج نخبة من القوات الخاصة متعدّدة الأبعاد. تباعاً، انتظمت هذه الدورات في معسكر الامام الحسين في طهران وخرّجت ثلة من القياديين والاستشهاديين.
مع إطلاق حزب الله لـ”رسالته المفتوحة إلى المستضعفين”، التّي شكّلت في تلك المرحلة ما يشبه الميثاق الرسمي للحزب، بات للحاج عماد مرجعيّة علنيّة. ظهر حزب الله إلى العلن، مثيرًا زوبعة من الجدل، والأسئلة في لبنان والعالم الإسلامي. بعدها، بدأ الحزب بالتّشكّل، والتطوّر، ليتحوّل لاحقًا إلى حزب فاعلٍ على مستوى الوطن والأمّة. كان عماد يزيد خفاءً كلما زاد الحزب حضورًا على المستويين السياسي والميداني. مع اختفائه، صار عماد أكثر قدرةً على التّحرك داخل منظومة المقاومة، وأكثر فاعليّةً في تنظيم العمل الأمني والعسكريّ، وتدعيمه.
كان مشهد المسجد المدمّر والضحايا من النساء والأطفال في مجزرة بئر العبد (8.3.1985) قاسيًا ومؤلمًا على قلب عماد. أفضى تفجير بئر العبد إلى استشهاد ما يزيد عن 80 شخصاً بالإضافة إلى جرح المئات. بعد أقل من عام على الجريمة، تمكّن عماد مغنيّة وإخوته المجاهدون من الإيقاع بكامل أعضاء شبكة العملاء المرتبطين بالتفجير. كان تفكيك الشبكة الانجاز الأمني الأول للمقاومة في حربها الأمنية المفتوحة مع العدو الاسرائيلي. شكلت عملية مطاردة عناصر الشبكة التي استغرقت زمنيًا شهورًا عدة تجربةً مكثّفة لفهم تعقيدات الداخل اللبناني الذي يتداخل فيه المستوى الأمني المحلي بالاقليمي والدولي، وكذلك اختبارًا أوليّا في كيفية استثمار التعقيد وتحويله إلى فرصة تتمثّل بتدعيم وجود سلاح المقاومة الاسلامية بوصفه سلاحًا موجهًا نحو العدوّ الاسرائيلي.
بُعيد اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، تواصَلَ الحاج عماد مع قيادات الفصائل الفلسطينية في سبيل التخطيط والتنسيق لتنفيذ عمليات نوعية في الداخل الفلسطيني. بالتّوازي، شهد الجنوب مواجهاتٍ شبه يوميّة بين المقاومة والعدوّ الاسرائيلي. واظب الحاج عماد على سياسة العمليّات النوعية في مواجهة جيش الاحتلال. فمن عمليّة الإستشهادي هيثم دبوق في المطلّة إلى عملية الاستشهادي أسعد برو، كان عماد وأخوته جريئين ومُختلفين في تحديد المهام والأساليب.
على خطٍ مواز، شهدت العلاقات التنسيقية بشخصَيْ الحاج عماد وأبو حسن سلامة مع الفصائل الفلسطينية طورًا جديدًا في نقل السلاح الى الداخل الفلسطيني وفي التدريب لتنفيذ عمليات نوعية كان أبرزها عملية عطاف عليان الاستشهادية التي لم يُكتب لها النجاح في آب 1987. كان هدف العملية تفجير مبنى رئاسة الحكومة الإسرائيلية في القدس. جاءت العملية على إثر العلاقات التي نشأت مع قادة فتح الثلاث أبو حسن القاسم، مروان الكيالي، حمدي سلطان (تم اغتيالهم في قبرص في 14 شباط 1988 من قبل الموساد الاسرائيلي).
مطلع عام 1992، اغتال العدو الإسرائيلي الأمين العام لحزب الله السيد عباس الموسوي. شكّلت عملية الاغتيال ضربة مؤلمة للحزب. لكنّه، وللمفارقة، أتاح لصواريخ “الكاتيوشا” الظّهور للمرّة الأولى في الردٍّ على عمليّة الإغتيال. أسس الحاج ورفاقه استراتيجية جديدة عملت على استهداف العمق الإسرائيلي، محقّقةً بذلك توازن الردع بين المقاومة والكيان الصهيوني.
وجدت إسرائيل في عماد عقلًا وروحًا يُجسّد تهديدًا حقيقيًّا لوجودها، تستحضره وسائل إعلام العدوّ، بشكل شخصيّ، فتتّهمه وتحمّله مسؤوليّة تفجيرات بيونس آيرس عامي 1992- 1994، ردًّا على اغتيال السيّد عباس الموسوي.
بُعيد استشهاد السيد عباس الموسوي، انتُخب سماحة السيد حسن نصر الله أمينًا عامًا لحزب الله. تعود العلاقة الأولى بين الحاج عماد مغنية والسيد نصر الله إلى أيام تسلّم الأخير مسؤولية العمل التنفيذي في حزب الله. كان عماد مغنية يرى أنّ شخصية السيد نصر الله اللّامعة والحاضرة بقوة بين الناس عرضةٌ لمحاولات الاغتيال، فما كان منه إلّا أن توجّه نحو تشكيل فريق حماية خاص بالسيد نصر الله قبل تعيينه أمينا عامًا لحزب الله.
شهدت بداية التسعينات سلسلة متغيّرات وضعت حزب الله قيادة ومنظومة وبيئةً أمام واقع مستجد، حيث تزامنت فترة استلام الإمام علي الخامنئي زمام قيادة الثورة مع فترة استلام سماحة السيد حسن نصر الله الأمانة العامة لحزب الله بعد استشهاد السيد عباس الموسوي. وفي الفترة ذاتها، طوى لبنان آخر صفحات الحرب الأهلية بابرام اتفاق عرف باتفاق الطائف.
انتقل حزب الله، المقاومة الفاعلة بوتيرة تصاعدية على المستويين العسكري والأمني، تدريجيًا من تنظيم عنوانه “الثورة الاسلامية في لبنان” الى حزب لبناني عنوانه “المقاومة الاسلامية في لبنان”. تموضع ضمن النسيج اللبناني كحزب يحمل سلاح المقاومة ولديه مشروعه السياسي اللبناني فكان أن شارك في انتخابات البرلمان وأصبح لديه كتلة سياسية في البلد.
مع كثافة المتغيرات في الواقع السياسي والأمني وجدلية “الاسلامية” في الواقع اللبناني، انتظم الحزب داخليًا بين أمينه العام سماحة السيد حسن نصر الله، ومسؤول الوحدة العسكرية السيد مصطفى بدر الدين “ذو الفقار”، ومسؤول الوحدة الأمنية “عماد مغنية”، وجهاز تنفيذي بإدارة السيد هاشم صفي الدين. وتمثّل مشروع حزب الله السياسي بكتلة سياسية في البرلمان اللّبناني.
شكّلت حرب الأيام السّبعة في شهر تموز/ يوليو من العام 1993 (عملية “تصفية الحساب” بحسب التسمية الإسرائيلية)؛ العملية الأوسع والأعنف منذ العام 1982. شنّ العدو 1124 غارة، وقصف 28 ألف قذيفة. استطاع حزب الله بصموده خلال تلك الحرب أنّ يوازن بين محدوديّة قدراته والقدرة التدميريّة لآلة الحرب الاسرائيلية. عمل الحاج عماد – بوصفه مسؤولًا عن الوحدة الأمنية- بالإيعاز إلى شبابه من الأمنيين بتفعيل العمل الأمني أثناء العدوان العسكري. فتحت تجربة الضباط الأمنيين في حرب الأيام السبعة بابًا واسعًا في اتجاهين: أولا، تفعيل التنسيق بين العمل العسكري والأمني لتحقيق نتائج ميدانية فعالة، ثانيا، تدريب العناصر الأمنيين ليصبحوا ضباطا فاعلين في الحرب الأمنية أثناء السلم. شكّلت مفاعيل حرب الأيام السبعة الخطوة الأولى في سبيل إضعاف التفوّق الإسرائيلي.
استهلت “إسرائيل” عام 1996 بتصعيد واسع تمثّل بعدوان “عناقيد الغضب” أو “عدوان نيسان” على لبنان. كان العدوان جزءًا من مشروع إقليمي يهدف إلى تصفية المقاومة، وهو ما وعاه الكيان الصهيوني جيّداً بُعيد القمة العربيّة في شرم الشيخ (قمة صانعي السلام). أرادت “اسرائيل” ومعها النظام الرسمي العربي آنذاك تصفية المقاومة ووضع حد نهائي للصراع، إلّا أنّ المقاومة أرادت المُضيّ قُدُمًا بمشروع تحرير الأرض والشعب. عام 1996، خاضَ حزب الله حربه الثانية ضد الكيان الغاصب، فنجح مجددًا في إضعاف التفوّق الإسرائيلي، فارضًا تفاهمًا جديدًا، سيُعرَف لاحقًا بـ “تفاهم نيسان 1996 “. هكذا تتالت الانتصارات منذ عام 1996 حتى تاريخ انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من لبنان عام 2000.
نضجت تجربة المقاومة بشكلٍ واضح. وتمكّن الحاج عماد ورفاقه من تحقيق تطوّر نوعيّ في العمل العسكريّ- الأمنيّ، وذلك بعد جهد فعّال وادراك عميق بالتجربة أنّ ردم الهوة العسكرية بين حركة مقاومة والعدو الاسرائيلي لا يمكن إلا من خلال المزاوجة في الضربات العسكرية النّوعية بين العمل الأمني والعسكري. فكانت عملية أنصاريّة الأمنية-العسكرية التي رسخت صورة النّصر عام 1997، ثم تلتها عمليّات وَسَمَت بصمة عماد مغنية بالإبداع وحسن التقدير وإدارة مسرح العمليات وإدارة الصراع مع العدو الاسرائيلي بأبعاده المركبة العسكرية- الأمنية- الاعلامية- السياسية. تتالى السقوط الإسرائيلي من مواجهات بركة الجبّور إلى عملية البياضة ثم عرمتى، وكان من أبرز تجليات الإجراءات الأمنية والعسكرية التي فرضتها إدارته لمسرح العمليات حينها: عملية اغتيال قائد القوات الإسرائيلية في الشريط المحتل، الجنرال إيرز غيرشتاين (1.3.1999). وتاليًا، عملية اغتيال العميل عقل هاشم (30.1.2000).
مع تسلّم القائد الحاج عماد مغنية منصب ” المعاونية الجهادية”، أًعيد بطلب منه رسم الهياكل التنظيمية لكل الوحدات القتالية وتحديد أشكال التواصل بين الهيكليات والتنسيق الفعال فيما بينها. في البناء الجديد، اتّسع الجسم الجهادي عرضًا ليصبح ” وحدات” بعد أن كان تشكيل حزب الله قبل 2000 عبارة عن وحدتين منفصلتين: عسكرية وأمنية. بدأ بتعزيز إنشاء التخصصات العسكرية على مستوى العديد وتدريبه التخصصي بما يتناسب مع الحاجة المطلوبة للميدان الذي تحدّد بلحاظ التجارب والاستشارات الواسعة بمجموعة عناوين، أهمّها ” نوع السلاح” الذي يجب أن يكون بحوزة المقاومة للتصدّي البري، البحري والجوي، وأيضًا سلاح يستطيع أن يضرب أهدافًا في العمق الإسرائيلي وهو ما بات يُعرف بـ ” الصواريخ النّقطوية”.
أعقبت خطوة تحديد نوع السلاح سلسلة خطوات أخرى تمثلت بتحديد كمّ السلاح وكيفية نقله وتخزينه وانتشاره في إطار القاعدة القتالية ” الجهوزية الدائمة” ببُعد أمني سريّ. هنا برزت أهمية الأنفاق حيث سعى الحاج عماد إلى تشييدها وفق هندسة خاصة تخدم قاعدة قتالية: “أنفاق مُعدّة للقتال”، غير محصورة وظيفتها في حماية العديد فقط. هذه العملية المتكاملة في حيازة السلاح وكيفية تخزينه وانتشاره أراد لها أن تكون عنصرًا أساسيًا من مفاجآت الحرب، وهو أحد أساليب الحاج عماد في إدارة القتال مع العدو.
تزامنت فترة تسلّم الحاج عماد المعاونية الجهادية مع تعيين الحاج قاسم سليماني قائداً لفيلق القدس. افتتح الثنائي عهداً جديداً في العلاقات بين قيادة الحرس الثوري الإيراني وقيادة المقاومة في لبنان. كانت العلاقة بين مغنية والقائد سليماني علاقة أخوية قائمة على عامِلَي الثقة والاحترام وتوطّدت فيما بعد بين العائلتين. انعكس الانسجام الفكري والروحي بينهما على قوة المقاومة فتحوّلت من حركة مقاومة تخوض حرب عصابات إلى نصف جيش منظّم فرض نفسه كتهديد استراتيجي على العدوّ الاسرائيلي في المنطقة. وكانت حرب تموز عام 2006 إحدى أبرز تجليات قوة حزب الله. وبعد تراكم طويل من التجربة النوعية المعزّزة بالثقة المتبادلة على مدى عقد من الزّمن، أخذت قوة حزب الله تتعاظم بوتيرة أكثر فعالية وسرعة وذلك بتناغم عالٍ بين الشخصيتين من حيث التخطيط وتجيير الإمكانيات وتوظيف الفرص.
لقد شهد العالم بأسره لصاحب مقولة ” اننا ننتصر لأننا نبتكر” أنّه كان من روّاد الإبتكار في العمل المقاوم. لقد كان الحاج مبدعاً جذرياً باعتراف الصّهاينة أنفسهم: “عرف عماد كيف يفكّر من خارج الصّندوق” يقول أحد كبار ضباط شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “أمان”، ويضيف محللون صهاينة ” لقد كان الحاج صاحب مبادرة، يشقّ الطّريق، ويتطلع للأمام دائمًا، إبداعه مثير للانطباع”.
بعد نجاح المقاومة باغتيال رأس الميلشيات المتعاملة مع العدو العميل عقل هاشم في 30.1.2000، تركّزت النقاشات في الكيان الصهيونيّ حول خيار الانسحاب من جنوب لبنان، خاصة مع تصاعد عمليّات المقاومة كمًّا ونوعًا وتصدّع الجبهة الداخليّة الإسرائيلية. كانت “اسرائيل” تتوقع أن يكون انسحابها من لبنان هادئًا، وسهلًا، وبسيطًا، دون آلام، ودون قتلى. لكن كان لعماد وإخوته، ثمة رأيٌ آخر. لقد أصرّ الحاج عماد على إذلال “إسرائيل” وعدم إعطائها فرصة الخروج الهادئ من جنوب لبنان. هكذا، وبعد 14 ساعة على اغتيال عقل هاشم، أصيب الصّهاينة بصدمة كبيرة، إذ توّجت المقاومة عمليّتها بإصابة قافلة عسكريّة بصاروخين. خاضت المقاومة عملية مطاردة مدروسة ضدّ العناصر، والمواقع العميلة في الشّريط الحدودي المحتل.
ألهمت عمليات المقاومين أبناء المنطقة المحتلّة، فقام الجنوبيون في الواحد والعشرين من أيار/مايو بالدّخول إلى قراهم. كان عماد مغنية يدخل مترجلاً مع الجنوبيين إلى قراهم، يتنقل من قريةٍ إلى أخرى، متجّهًا نحو الحدود الفلسطينية. صبيحة الخامس والعشرين من أيار، حقّق عماد أمنيته بالوصول إلى الشّريط اللّبناني. هناك عند أعلى تلة في بلدة مركبا وقف ليحقّق أمنيته، فاستنشق هواء فلسطين للمرّة الأولى. وفي وسط فرحته العارمة، قام بقصّ جزءٍ من السّلك الحدودي، لقد صار حلم تحرير فلسطين قابلاً للتّحقّق.
التحرير المفاجئ الذي بدأ من مبادرة شعبية لمجتمع المقاومة واكبته إدارة مركبة أمنية- عسكرية ميدانية مرنة. رسم عماد مغنية خطوطًا ميدانية لإدارة الانسحاب الاسرائيلي: إدارة المدنيين وعودتهم بأمان، إدارة ملف العملاء اللحديين وتسليمهم إلى الدولة اللبنانية، الانتشار المستجد لمقاتلي المقاومة الاسلامية، صناعة صورة الانسحاب الاسرائيلي المذل، ورسم طبيعة الصراع المستجدة مع العدو الاسرائيلي بعد تحرير معظم الأراضي اللبنانية.
كان انتصار أيّار 2000 هو الإنتصار العربيّ الأول منذ نكبة فلسطين( 1948). ترك هذا الإنتصار أثره البالغ على الشّعوب العربيّة والإسلامية. وكعادته، أظهر الحاج عماد عبقريّة في استثمار الإنتصار إعلاميًا، فأكّد على حضور الإعلام، وأتاح عقد لقاءات مع المجاهدين، كما شجّع على تنظيم زيارات شعبيّة، وحزبيّة إلى مواقع المقاومة، وإلى المناطق المحرّرة. في المقابل، عمل الحاج عماد على تأمين كامل الحدود عبر قيام المقاومة بعملية إنتشار تواكب حركة اندحار العدوّ.
بعد أشهر قليلة من الإنسحاب الإسرائيلي المذلّ، وجّهت المقاومة ضربة قاسية لجيش الإحتلال عندما تمكنت في 7.10.2000 من أسر ثلاثة جنود في عملية نوعيّة، إثر مهاجمتها دوريّة إسرائيليّة بالقرب من مزارع شبعا. جاءت العمليّة كتأكيد واضح على استمراريّة المقاومة حتّى استئصال إسرائيل من الوجود.
أراد الحاج عماد من العمليّة التّخفيف عن الجبهة الفلسطينية بعد اندلاع الإنتفاضة الثّانية في أواخر شهر أيلول/ سبتمبر عام 2000 . شكّلت الإنتفاضة استجابةً لغليان الشّارع الفلسطينيّ، ومعاناته اليوميّة، وتردّدًا طبيعيًا لصدى الإنتصار في الجنوب اللّبناني. شعر الشارع العربي، وللمرّة الأولى أنّه قادر على “الفعل”، وعلى تحقيق النّصر، وأنّ مفتاح تغيير التاريخ بات بين يديه. أثبتت المقاومة أنّها خيار “المنطق”، و”العزّة” في آن، وأنّها البديل الواقعيّ لعملية السلام المذلّة. عمل الحاج عماد على مساعدة الإنتفاضة الفلسطينيّة بكلّ ما أوتي من قوّة، ولم يقتصر هدفه على تثبيت الوجود الفلسطينيّ، إنّما تجاوزه للعمل على دحر الإحتلال.
“… بعد التّحرير عام 2000 ، وعندما تيسّر لنا التّعرّف أكثر إلى العدوّ وقدراتنا نحن، صار حلم فلسطين قابلًا للتّحقّق. لقد أنشأنا لجنة لإزالة إسرائيل. وفي المقاومة، عندنا ثمّة وحدة خاصّة بفلسطين. نحن لا نقوم بالعمل عن الفلسطينيين، ولن نفعل ذلك. لكننا في موقع سياسيّ وأخلاقيّ ودينيّ يوجب علينا توفير كلّ المستلزمات للمقاومين في فلسطين، ليس فقط لمساعدتهم على البقاء حيث هم الآن، بل لمقاومة الإحتلال ودفعه إلى الخروج ولو تدريجيًا من الأراضي المحتلّة”.
كان الحاج عماد رؤيويًا، ويتمتّع بنظرة ثاقبة على مستوى تنظيم وإدارة العمل العسكري. كان يملك مهارة “الإدارة العسكريّة” من خلفيّته الأمنية، وقام بتطوير البنية العسكريّة للمقاومة في لبنان وفلسطين. نحا منحى التّخصّص في العمل الميداني [معلومات، تدريبات، استخدام الأسلحة،…]، وكانت له اقتراحات أسهمت في تطوير الترسانة المستخدمة.
عاد إسم عماد مغنيّة إلى التّدوال، وبقوّة، في دوائر الإستخبارات العالميّة، والإسرائيليّة خاصةً. أُدرج اسمه هذه المرة في ملف تهريب الصواريخ إلى غزة. بدأ الحاج عماد بتشكيل وتأهيل الشّباب الفلسطيني وتدريبه في القطاع. وأسس النّواة الأولى لخلايا سرايا القدس وكتائب النّاصر صلاح الدين.
في صبيحة 21 أيّار/ مايو من العام 2001، ضجّت الصحف الإسرائيلية بالقارب سانتوريني الذي أوقف شمال المياه الإقليميّة الفلسطينية. كانت الباخرة في مهمّتها الرابعة على التّوالي. وفي أيّار 2002، اعترضت وحدة كوماندوس إسرائيلية السفينة “كارين إيه” في المياه الدولية في البحر الأحمر. شكّلت هذه السّفينة دليلاً واضحًا على علاقة قويّة ربطت الحاج عماد بحركة فتح وبقائدها ياسر عرفات.
بعد إقرار إسرائيل بعجزها عن تجفيف خطوط إمداد السّلاح للفلسطينيّين، باشرت أولى انسحاباتها من قطاع غزة في 15 آب 2005، وذلك بعد ثمانية وثلاثين عاماً على إحتلاله.
كان الحاج عماد معنيًّا بكلّ حركات المقاومة في المنطقة، فعمل على إنشاء “جيوش رديفة” لدحر الإحتلال من العالم العربيّ والإسلامي. بعد دخول الإحتلال الأمريكي إلى العراق[ 2003 ]، سعى إلى نقل خبرة المقاومة في قتالها العدو الاسرائيلي واللّحدي إلى المقاومة العراقيّة، من الألف إلى الياء. عمل على تنظيم بنية كتائب وفصائل المقاومة العراقيّة، وعلى تدريب المجاهدين، ومدّهم بالأسلحة. كان “مدرسةً متكاملة”، “تنظيماً متجسّداً في رجل”. سعى لاستنساخ تجربة المقاومة اللبنانية في عمليّاتها النّوعيّة، فكانت باكورة هذا التّعاون تفجيرات ممهورة بإمضائه شكلًا ومضمونًا، وبنفس الأسلوب المعتمد لدى مجاهدي المقاومة الإسلاميّة. كان يهدف لإيصال رسالة للإحتلال مفادها أنّ “حزب الله وجميع المقاومات في المنطقة، على اختلاف أطيافها تشكّل جبهة واحدة عدوّها المشترك: إسرائيل والولايات المتّحدة الأميركيّة”. كذلك خطّط لعمليّة نوعيّة لأسر جنود بريطانيين، وسعى لتكريس أسلوب جديد من العمليّات الأمنيّة الخفيّة، بشكل يرجّح كفّة النّوعيّة على الكميّة.
دأب الحاج عماد على الإعداد للحرب المقبلة. فصاغ وأخوانه في المجلس الجهاديّ إستراتيجيّة جديدة بعد تحرير أيّار 2000. إضافة إلى تدريب وتطوير الكادر البشري على المستوى العسكريّ والأمنيّ والثقافيّ والروحيّ، أسّس الحاج عماد لنقلة نوعيّة في الترسانة الصاروخيّة للمقاومة. كما عمل على تطوير الأسلحة والتّقنيات معتمدًا على “الاستطّلاع المباشر”، فصدم العدو والصّديق بمفاجآت حرب تموز 2006 [تدمير البارجة ساعر 5، مجزرة الميركافا]. كما عمد إلى تأسيس البنية التحتيّة اللاّزمة: حفر الأنفاق، تطوير شبكة الإتصالات والمعلوماتيّة، الإستشفاء وغيرها من الأمور.
لم يغفل الحاج عماد أهميّة “حرب المعلومات”، لذا سعى لكسر احتكار الغرب للمعلومات، وخصوصًا الأمنيّة منها. فأسّس وحدة متخصّصة بالعمل على رصد وترجمة الدّراسات الأمنيّة العلميّة، والتّقارير البحثيّة والإعلاميّة الغربيّة والعبريّة. كان يتابع كلّ التّفاصيل المتعلّقة بالعدو، وبترسانة أسلحته، وبواقعه العسكري. كان يريد أن يفهم بنية إسرائيل، ومجتمعها، واقتصادها، وثقافتها، وإعلامها، وكلّ ما يتعلّق بها. كذلك، أولى شبكة اتّصالات المقاومة اهتمامًا خاصًا، وعمل على تطويرها.
في تموز 2006، قاد الحاج عماد أشرس معركة على الإطلاق ضدّ العدو الإسرائيلي. هدفت الحرب الإسرائيلية إلى تدمير قوّة حزب الله المتعاظمة بعد انتصار أيّار من العام 2000. بدأت المعركة في 12 تمّوز/ يوليو إثر تنفيد المقاومة الاسلامية عملية اختطاف جنديين صهيونيين في منطقة خلة وردة في خراج بلدة عيتا الشعب الحدودية ، وانتهت الحرب في 14 آب 2006، بـ ” إلهيّ” هو الأهم في تاريخ الصّراع. كرّست هذه الحرب القائد عماد مغنيّة “قائد الإنتصارين بحق” بتعبير الأمين العام لحزب الله سماحة السيد الشهيد حسن نصر الله.
كان الحاج عماد مغنية طيلة أيّام حرب تموز صائمًا، مشغولاً بإدارة جبهة القتال. تابع كلّ تفاصيل الأعمال العسكريّة من قتال، ودعم، ومواكبة لسير العمليات، وتحديد لتوقيت “المفاجآت”. كانت أولى أولويّاته حماية قيادة حزب الله، فكان حريصًا على تفقّد أخوته المجاهدين حتى أولئك الذين لا علاقة لهم بالميدان. كما كان شديد الحرص على سلامة الأمين العام للحزب السّيد حسن نصر الله.
أطلق الحاج عماد ورشة تقييم لمُجريات حرب تموز، جمَع فيها كل مسؤولي المحاور والوحدات والاختصاصات في سلسلة جلسات حضرها شخصيًا برفقة سماحة السيد حسن نصر الله على مدى أسبوع كامل.
بناء على خلاصات تقييم الحرب، وضع الحاج عماد رؤية استراتيجية رَسَمَ فيها مسار تعاظم قوة المقاومة من تنظيم محلّي إلى قوة إقليمية، فأطلق برنامج “بناء القدرة” واتّجه به نحو التنفيذ، فاستطاع في فترةٍ وجيزة تأسيس بنية عسكرية قادرة على تحقيق الردع في كل المجالات، كما حقق نقلة نوعية في تطوير الترسانة الصاروخية مدىً ودقّة.
في 12 شباط/ فبراير من العام 2008، ارتقى الحاج عماد شهيدًا في عمليّة اغتيال صهيونيّة في منطقة “كفرسوسة”، إحدى ضواحي العاصمة السورية دمشق. استغرقت مطاردته ثلاثة عقود وامتدّت على ثلاث قارّات، ودوّن حولها العديد من المؤلّفات.
ظهر “قائد الظّل” بعد 25 عامًا من المطاردة، والتعقّب، وتبادل المعلومات بين أكثر من 40 جهاز إستخباراتي عالميّ على رأسها الاستخبارات الاسرائيليّة “الموساد” والاستخبارات الأميركية CIA.
ارتقى جهاد عماد مغنيّة شهيداً. شابَهَ الشّابُ أباه قلبًا وقالبًا، فوفى بعهدٍ قطعه لوالده وقائده في أربعينيّته. استشهد جهاد مع خمسة من رفاقِه المجاهدين خلال مهمة استطلاعية في مزرعة الأمل في القنيطرة إثر تعرضهم لغارة إسرائيلية في 18 كانون الثاني 2015.
ظهر جهاد للمرة الأولى إلى العلن خلال مراسم تشييع والده، حينها كان يبلغ من العمر 17 عاماً. صعد المنبر وخاطبه: “مثلك يا حاج عماد لا يموت إلا شهيدًا”، وأقسم أنّه سيكمل الطريق. كانت إطلالة قصيرة، لكنّها سرعان ما رسخت في وجدان وعقول الشّباب من أبناء جيله. لقد تميّز بحماسةٍ وجرأة واضحتين تجسّدتا في أسلوب خطابه وفحواه، فكانت شهادته وفاءً للعهد والنّهج.