الاسم: عماد
الشهرة: مغنية
اسم الأب: فايز
اسم الام و شهرتها: امنة سلامة
أبصر عماد مغنيّة النور، سنة 1962، في منطقة الشّياح في الضّاحية الجنوبيّة لبيروت. ترعرع، إبن فايز مغنيّة وآمنة سلامة، في الشياح ومنها عايش تجربة الحرمان والحرب. مع السيّد موسى الصدر، عايش عماد إنطلاقة الحالة الإسلاميّة في لبنان مبكراً. ثم ما لبث أن مضى سريعاً ليكون أحد أعمدة العمل الإسلاميّ الجهاديّ. من الشيّاح إلى الحدود مع فلسطين، كانت دائرة عمل عماد الشاب والرّجل تكبر وتتّسع. ومن محرومي لبنان إلى مستضعفي العالم كان عماد يعيد مُوازنة انتمائه وترتيب أولويّاته. لقد وعى عماد مغنيّة أبعاد الصراع وحقيقته مُبكراً. الأمر الذي جعل من “الأقصى” عنوانًا له ولهويّته. عماد الوطنيّ كان عربياً ومسلماً، وعماد الثوري كان إنساناً وقضيّة. هو لم يُحِد قلبه عن المستضعفين، بمثل ما لم تحِد بندقيته عن فلسطين قيد أنملة. عماد المحبّ لفلسطين كان لأهلها فجراً قادماً لا محالة، ولإخوته وعارفيه كان موعداً مرجأ مع الشهادة. عماد، الفجر، الشهيد، كان لا بد أن ينال مُراده، يقول عارفوه، وهو ما ناله فجر الثاني عشر من شباط 2008.
لم يكن عماد مقاموماً فحسب. هو كان ابناً لعائلة مقاوِمة. فأخوه الأصغر جهاد، كان قد سبَقَه للشهادة سنة 1985. وأخوه فؤاد كذلك كان قد مضى شهيداً في العام 1994. استشهد جهاد في قصف مدفعيّ على منزل السيّد محمد حسين فضل الله في منطقة بئر العبد في الضاحية الجنوبية لبيروت. واستشهد فؤاد في تفجير اسرائيلي في محلة صفير في الضاحية الجنوبية لبيروت سنة 1994. جهاد، فؤاد، وعماد، كانوا مقاومين وصاروا شهداء. لقد قدموا نماذج للعائلة الملتزمة المحتسبة؛ إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وربطنا على قلوبهم، إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض، لن نعبد من دونه آلهة.
لم تحِد هذه العائلة عن درب الجهاد والمقاومة. فكان الإخوة مِثالاً لأنموذج العائلة المضحّية، وكان الأبناء خير خلف لهم كذلك. في الثامن عشر من كانون الثاني من العام 2015، ارتقى ابن الحاج عماد مغنية –جهاد- شهيداً في درب المقاومة. ما بين شهادة جهاد-الأخ، وجهاد-الإبن ثلاثة عقود خلت، ما بين جهاد-الأخ وجهاد الإبن ثلاثة عقود من الحب والصبر والعزم على المضي في طريق النصر. لقد كان جهاد اسماً حاضراً في عائلة. صار الجهاد العنوان الأكثر حضوراً في الأمة. لقد قدمت عائلة مغنيّة أمثولة حيّة على التضحية والوفاء… والصبر والإباء، وهو ما نجده ماثلاً في كل تفاصيل حياة القائد الشهيد الحاج عماد مغنية.
كان إبن الثالثةَ عشرَ عامًا عندما اندلعت الحرب الأهليّة في لبنان. في 13 نيسان 1975 اشتعلت شرارة الحرب الأهليّة اللّبنانيّة من ساحة «البريد» في عين الرمانة، وعلى مسافة 50 مترًا من مطعم أبيه دوّى أزيز أولى الطلقات. كانت الحرب تحوّلاً كبيراً في حياة عماد مغنيّة. على دفتَي طريق “صيدا القديمة”، كان الفاصل بين الشيّاح وعين الرمّانة يتّسع، وفي جانبي الطريق كانت الحرب توغل في دم الأبرياء. هناك كبُر عماد الفتى ليُصبح رجلاً. وهناك صار عماد أكثر وعيًا لجهة السلاح ووِجهته. في عين الرمانة، تمترس مقاتلو الكتائب والأحرار، وعلى المقلب الآخر حارب مقاتلو الحركة الوطنيّة والفصائل الفلسطينيّة. هناك تسنّى لإبن الثالثة عشر عاماً الإختلاط باليسار والأحزاب المُختلفة. لكن ذلك كلّه، لم يدفعه للانتماء إلى أيّ من الأحزاب اللبنانيّة. فأمضى أيّامه ولياليه، متنقلاً بين المحاور، يرفع السواتر لحماية أهله وشعبه من نيران الغدر والقنص.
في تلك الفترة، شكّل عماد خليّته الأولى الصغيرة “خليّة الحي”. جمع فيها الرفاق ونظّمها، وآل على نفسه الذَود عن “الأمّة” بدءاً من الحيّ، بالرغم من الإمكانات المتواضعة المتاحة. كان عماد مغنيّة “قائداً بالفطرة”، وصاحب ذكاءٍ متّقد. في الشيّاح لجأ إليه الجميع. كان باسلاً لا يهاب الحرب، ولا الموت، على صغر سنّه. فَراح يبثّ الحماسة والشجاعة في نفوس رفاقه وأقرانه. إلتحق بركبه الكثير من الناس حبّاً بسلوكه وأخلاقه، وهو ما مكّنه من توسعة الخليّة يوماً بعد آخر، لتضم في صفوفها النواة الأولى لثلّة من مجاهدي المقاومة الإسلاميّة في ما بعد.
تعرّف عماد في تلك الفترة على أبو حسن خضر سلامة [الشهيد على ديب] في مركزيّة منظّمة التحرير. انجذب الفتى الثّائر إلى الرّجل المناضل. وكان الأخير سببًا في إشراكه بعدد من الدّورات العسكريّة في معسكرات “فتح” في الشيّاح، والمخيّمات الفلسطينيّة داخل بيروت وخارجها، كما وفي إلتحاقه بالركن الـ “17” جناح القوّة الخاصّة لحركة “فتح” آنذاك. وعلى الرّغم من ضبابيّة المشهد، كانت لعماد أهدافه الواضحة في عمله إلى جانب حركة فتح؛ المنظّمة الأقوى على السّاحة اللّبنانيّة حينئذ. لقد آمن عماد بالمقاومة كنهج وبفلسطين كقضيّة.
بُعيد الاجتياح الاسرائيلي الأول سنة 1978، بدأ عماد الإعداد العمليّ لقتال اسرائيل. كانت خطاب ورؤى الإمام الصدر قد شغفت قلب “عماد الفتى” حبّاً بالمقاومة. هيّأ الإمام موسى الصدر مجتمع المحرومين في لبنان لتبني نهج المقاومة، فحرّم عبور “الجدار الطّيب” للإستشفاء كي لا تصبح إسرائيل “جارةً حقيقيّة”. أما اختطاف الإمام الصدر [ في31 آب 1978] فقد شكّل انعطافة كبرى في وعي عماد لتحمل المسؤوليّات الجثام تجاه أمّته، ومجتمعه.
بعيد اختفاء السيد موسى الصدر، صار الوضع الأمني في لبنان مُنفلتاً. أواخر السبعينيات تعرّض آية الله السيد محمد حسين فضل الله لمحاولة اغتيال فاشلة من خلال استهداف موكبه بالأسلحة النارية على طريق عام الشياح الغبيري (روضة الشهيدين). كان للسيّد فضل الله علاقة وثيقة بعائلة مغنيّة. فقد كانت الحاجة أم عماد، نّاشطة في المجال النسائيّ الإسلامي وعلى علاقة مباشِرة مع السيّد باعتباره الموجّه الثقافيّ لحالة المقاومة. انبرى عماد ورفاقه سريعاً لتشكيل درع أمني لحماية السيّد فضل الله. بعدها، وبهدف حمايه، دأب عماد مرافقة السيّد فضل الله في غالب جولاته، خصوصًا الخارجيّة منها كأداء فريضة الحاج عاميّ 1980 و1981.
لقد عاشت الحالة الإسلامية نوعاً من الغليان منذ مطلع الثمانينات. على الأرض، سعت المجموعات والفصائل الإسلامية العمل على تنسيق جهودها وتنظيم عملها، كان السيد محمد باقر الصدر الملهم والموجّه لعموم الحالة الإسلامية في لبنان والعراق. وهو ما جعل من اغتياله المحطة الثانية الأبرز في حياة عماد المجاهد، بعد محطة الإمام السيد موسى الصدر.
كان لانتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران، وعودة الإمام الخميني من منفاه، وقعاً كبيراً على الجماهير، التي رأت في الثورة انطلاقةً لصحوة إسلاميّة جديدة. كانت قلوب الشباب المسلم تهفو إلى ما يجري في طهران. وكان عماد، الشاب الثائر، أحد أبرز هؤلاء الذّين استحالوا فيما بعد قادةً لنهجٍ إسلامي شمل الأمّتين العربيّة والإسلاميّة.
أُتيح لعماد فرصة مقابلة الإمام الخميني مرتين. الأولى، خلال مرافقته للسيّد محمد حسين فضل الله في مؤتمر يوم المستضعفين. أما الثانية فكانت سنة 1981. في لقائه الثاني جالس عماد الإمام الخميني لمدّة نصف ساعة، كان لقاء مغنيّة بالإمام كافيًا ليحسم الأول قراره في اختيار شكل ونوع القائد، كما والحياة التّي يريدها لنفسه ولأمّته. كانت هذه الجلسة كفيلةً بحسم مغنيّة خياره وإطار رؤيته الثوريّة بوضوح. لقد مضى عماد في درب الإمام مذّاك حتّى يوم شهادته.
سقطت بيروت بيد الصّهاينة في حزيران 1982، ومعها سقطت منظمة التحرير في لبنان بشكلٍ دراماتيكيّ. كان التيّار الإسلاميّ يشهد تحولاً حقيقياً في رؤاه وتطلعاته.
صبيحة الحادي عشر من تشرين الأول من العام 1982. دوى انفجار هائل في مبنى مقرّ الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور. كانت أوّل عمليّة إستشهاديّة نوعيّة للمقاومة من “إبتكار” الحاج عماد مغنيّة.
في تشرين الأول 1983، وجّهت الإدارة الأميركية الإتهام لعماد مغنيّة في مسؤوليته عن تفجير السّفارة الأميركيّة في بيروت، ومعها مقرّ قيادة المظليّين الفرنسيين، وقاعدة قوّات مشاة البحريّة الأميركيّة “المارينز”.
مع إطلاق حزب الله لـ”رسالته المفتوحة إلى المستضعفين”، التّي شكّلت في تلك المرحلة ما يشبه الميثاق الرسمي للحزب، بات للحاج عماد مرجعيّة علنيّة. ظهر حزب الله إلى العلن، مثيرًا زوبعة من الجدل، والأسئلة في لبنان والعالم الإسلامي.
كان مشهد المسجد المدمّر والضحايا من النساء والأطفال في مجزرة بئر العبد قاسيًا ومؤلمًا على قلب عماد. فالشّاب المؤمن لم يكن ليقوم أو يَثُر سوى لدفع الموت، والخوف، عن أهله وأّمته
سقطت بيروت بيد الصّهاينة في حزيران 1982، ومعها سقطت منظمة التحرير في لبنان بشكلٍ دراماتيكيّ. كان التيّار الإسلاميّ يشهد تحولاً حقيقياً في رؤاه وتطلعاته. أما عماد الذي كان في طهران عشيّة الاجتياح، فسرعان ما عاد بيروت ليلتقي مجددًا رفاقه في فتح والفصائل الفلسطينيّة الأخرى. من خلدة إلى كليّة العلوم جنوب شرق بيروت، ومن الكوكودي غرب الضاحية الجنوبيّة، وصولاً إلى شاتيلا، راح عماد يشدّ من عضد المقاتلين من مِحور لآخر. في منطقة الغبيري أصيب عماد بقدمه، لكن الإصابة لم تُثن من عزيمته. بُعيد مغادرة منظمة التحرير لبيروت سارع عماد للاستفادة من السّلاح الذي خلّفه المقاتلون الفلسطينيون. وعلى الرّغم من صعوبة الظّروف تمكّن الحاج عماد، وبمساعدة ثلّةٍ من رفاقه، من نقل السلاح إلى الجنوب اللّبناني.
كان الإسرائيلي مشغولاً ببيروت، وكان عماد يتطلع جنوباً إلى ما وراء الخطوط. منذ ذلك الوقت شرع الحاج بالتّخطيط لسلسلة عمليات ضدّ العدوّ الإسرائيليّ، بدءًا من نصب الكمائن، مرورًا بقنص الجنود، وصولاً إلى قصف التجمعّات، … لقد وجّه الحاج عماد بوصلة السّلاح إلى إسرائيل، باعتبارها العدوّ الأوّل والأخير، متعاليًا فوق كلّ متاهات الاقتتال الدّاخلي اللّبناني. عندها عرف العدوّ أنّه تورّط في حرب عصابات لا نهاية لها. حرب سرعان ما بدأت في بيروت الغربيّة، ولم تنته في الجنوب اللبنانيّ.
صبيحة الحادي عشر من تشرين الأول من العام 1982. دوى انفجار هائل في مبنى مقرّ الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور. كانت أوّل عمليّة إستشهاديّة نوعيّة للمقاومة من “إبتكار” الحاج عماد مغنيّة. خطّط الحاج للعمليّة وجهّز لها، ثم أشرف على تنفيذها بنفسه. أسفرت العمليّة عن مقتل 76 ضابطًا وجنديًا إسرائيليًا. تُعتبر عمليّة الإستشهادي أحمد قصير باكورة العمليّات النوعيّة للمقاومة. فقد سجّلت هذه العمليّة اللّحظة الأولى لولادة المقاومة الإسلاميّة في لبنان. في ما بعد، اعتبر أوري أور، قائد المنطقة الشّمالية في جيش الاحتلال أنّها “كانت الصّدمة الأولى، والأقوى للجيش الإسرائيلي في لبنان”. مع عمليّة فاتح عهد الإستشهاديين، بدأ عصرٌ ممهورٌ ببصمة عماد مغنيّة.
في تشرين الأول 1983، وجّهت الإدارة الأميركية الإتهام لعماد مغنيّة في مسؤوليته عن تفجير السّفارة الأميركيّة في بيروت، ومعها مقرّ قيادة المظليّين الفرنسيين، وقاعدة قوّات مشاة البحريّة الأميركيّة “المارينز”. وضع مكتب التحقيقات الفيدراليّة “FBI” جائزة قدرها 25 مليون دولار للقبض عليه. لكن الاتهام لم يثن من عزيمة مغنيّة الذي أصر على إنزال الهزيمة بالاسرائيلي. هكذا، وبُعيد عامٍ من عمليّة الإستشهاديّ أحمد قصير. هاجم استشهاديّ آخر مقرّ المخابرات الإسرائيليّة في صور. لم ينجح الإسرائيليون في إيقاف الاستشهادي الذي حوّل المبنى إلى ركام متطاير. اعترفت إسرائيل حينها بمقتل 29 جندياً من صفوف جيشها جراء العمليّة.
مع إطلاق حزب الله لـ”رسالته المفتوحة إلى المستضعفين”، التّي شكّلت في تلك المرحلة ما يشبه الميثاق الرسمي للحزب، بات للحاج عماد مرجعيّة علنيّة. ظهر حزب الله إلى العلن، مثيرًا زوبعة من الجدل، والأسئلة في لبنان والعالم الإسلامي. بعدها، بدأ الحزب بالتّشكّل، والتطوّر، ليتحوّل لاحقًا إلى حزب فاعلٍ على مستوى الوطن والأمّة. كان عماد يزيد خفاءً كلما زاد الحزب حضوراً على المستويين السياسي والميداني. مع اختفائه، صار عماد أكثر قدرةً على التّحرك داخل منظومة المقاومة، وأكثر فاعليّةً في تنظيم العمل العسكريّ، وتدعيمه. كان كلّما أوغل في الإختفاء، كلّما صار أكثر حضورًا وأثراً في قلوب وعقول عارفيه.
كان مشهد المسجد المدمّر والضحايا من النساء والأطفال في مجزرة بئر العبد قاسيًا ومؤلمًا على قلب عماد. فالشّاب المؤمن لم يكن ليقوم أو يَثُر سوى لدفع الموت، والخوف، عن أهله وأّمته. لقد أفضى تفجير بئر العبد لاستشهاد ما يزيد عن الثمانين شخصاً بالإضافة لجرح المئات. حجم الدمار وعدد الضحايا لم يثقلا كاهل عماد. بُعيد أقل من عام على الجريمة، تمكّن عماد مغنيّة وإخوته المجاهدين من الإيقاع بكامل أعضاء شبكة العملاء المرتبطين بالتفجير. كان تفكيك الشبكة الانجاز الأمني الأول للمقاومة في حربها الأمنية المفتوحة مع الإسرائيليين. ستطول الحرب الأمنيّة بين عماد والإسرائيليين، وهي الحرب التي عُرفت في ما بعد، بحرب الأدمغة.
بُعيد اندلاع الانتفاضة الأولى، شهد الجنوب مواجهاتٍ شبه يوميّة بين المقاومة واسرائيليين. كما شهد حضوراً بارزاً لشخص السيد عباس الموسوي على الأرض. واظب عماد سياسة العمليّات النوعية في مواجهة جيش الاحتلال. فمن عمليّة الإستشهادي عبد الله عطوي في المطلّة إلى عملية الاستشهادي أسعد برو، كان عماد جريئاً ومُختلفاً في تحديده المهام والأساليب.
مطلع عام 1992، وفي شهر شباط تحديداً كان حزب الله على موعد مع الشهادة مرة أخرى. فقد اغتالت اسرائيل الأمين العام لحزب الله السيد عباس الموسوي. لقد كان اغتيال الأمين العام لحزب الله، في حينها، ضربة مؤلمة للحزب. لكنّه، وللمفارقة، أتاح لصواريخ “الكاتيوشا” الظّهور للمرّة الأولى في الردٍّ على عمليّة الإغتيال. لم يسمح المقاومون لإسرائيل بأنّ تنعم بالهدوء بعد اغتيال السيّد الموسوي، كما لم يرضَ الحاج عماد بأنّ تنكسر المقاومة. لقد أسس الحاج من ذلك الوقت لاستراتيجية جديدة عملت على استهداف العمق الإسرائيلي، الأمر الذي كان له كبير الأثر في توازن الردع بين المقاومة والكيان الصهيوني.
أما سنوات ما بعد استشهاد السيد عباس الموسوي، فقد شكّلت تحدياً خاصاً للحاج عماد بعد أن صار مسؤولاً عن أمن المقاومة. لقد وجدت إسرائيل فيه عقلاً وروحاً تجسّد تهديداً حقيقياً لوجودها. هكذا استحال الرّجل الأسطورة أيقونةً للمقاومة، تستحضره وسائل إعلام العدوّ، بشكل شخصيّ، فتتّهمه وتحمّله مسؤليّة تفجيرات بيونس آيرس عامي 1992- 1994، التّي تلت إغتيال السيّد عباس الموسوي.
شكّلت حرب الأيام السّبعة في تموز من العام 1993 (عملية “تصفية الحساب” بحسب التسمية الإسرائيلية)؛ العملية الأوسع والأعنف منذ العام 1982. إذ شنّ العدو 1124 غارة، وقصف 28 ألف قذيفة. استطاع حزب الله بصموده خلال تلك الحرب أنّ يوازن بين محدوديّة قدراته والقدرة التدميريّة لآلة الحرب الاسرائيلية. لقد عمل الحاج عماد على فرض معادلته الخاصة من خلال “سلاح الكاتيوشا”. ومنذ ذلك الوقت باتت التّجمعات الاسرائيليّة هدفًا مشروعًا لصواريخ المقاومة. فشكّلت حرب الأيام السبعة الخطوة الأولى في سبيل إضعاف التفوّق الإسرائيلي.
استهلت إسرائيل عام 1996 بتصعيد واسع تمثّل بعدوان “عناقيد الغضب” أو “عدوان نيسان” على لبنان. كان العدوان جزءًا من مشروع إقليمي يهدف لتصفية المقاومة، وهو ما وعاه الكيان الصهيوني جيّداً بُعيد القمة العربيّة في شارم الشيخ (قمة صانعي السلام). لقد أرادت “اسرائيل” ومعها النظام الرسمي العربي آنذاك، تصفية المقاومة ووضع حد نهائي للصراع
أرادت المقاومة المضي قُدُمًا بمشروع تحرير الأرض والشعب. عام 1996، خاض حزب الله حربه الثانية ضد الكيان الغاصب، فنجح مجددًا في إضعاف التفوّق الإسرائيلي فارضًا تفاهمًا جديدًا، سيُعرَف مع الوقت بتفاهم نيسان 1996. هكذا تتالت الانتصارات منذ عام 1996 حتى تاريخ انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من لبنان. لقد نضجت تجربة المقاومة بشكلٍ واضح. وتمكّن الحاج عماد ورفاقه من تحقيق تطوّر نوعيّ في العمل العسكريّ، فكانت عملية أنصاريّة الأمنية-العسكرية التي رسخت صورة النّصر. ثم كانت العمليّات التي وسمت بصمة عماد مغنية بالإبداع وحسن التقدير. لقد تتالى السقوط الإسرائيلي من الجبّور إلى البياضة إلى عرمتى، وليس انتهاءً بدرّة عمل الحاج الأمنية؛ عملية اغتيال قائد القوات الإسرائيلية في الشريط المحتل، الجنرال أيرز غيرنشتاين (1.3.1999).
لقد شهد العالم بأسره للحاج عماد أنّه كان من روّاد الإبتكار في العمل المقاوم. لقد كان الحاج مبدعاً جذرياً باعتراف الصّهاينة أنفسهم. “عرف عماد كيف يفكّر من خارج الصّندوق” لقول أحد كبار ضباط شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “أمان”. لقد كان الحاج صاحب مبادرة، يشقّ الطّريق، ويتطلع للأمام دائماً. “إبداع مغنية كان مثيراً للانطباع” يؤكّد المحلّلون الصّهاينة. كيف لا؟ وهو صاحب مقولة “نحن ننتصر لأننا نبتكر”.
كان الحديث في الكيان الصهيونيّ عن الانسحاب من جنوبيّ لبنان قد طفى إلى السطح بضغط من عمليّات المقاومة وتصدّع الجبهة الداخليّة الإسرائيلية نفسها، عندما حقّقت المقاومة نجاحًا نوعيًا بقطع رأس الميلشيات المتعاملة باغتيال عقل هاشم في 30 كانون الثّاني عام 2000. كانت “اسرائيل” تتوقع أن يكون انسحابها من لبنان هادئاّ، وسهلا، وبسيطًا. وأنّه سيتمّ بالتخدير؛ دون آلام، وبدون قتلى. لكن لعماد وإخوته، كان ثمة رأيّا آخر. لقد أصرّ الحاج على إذلال “إسرائيل” وعدم إعطائها فرصة الخروج الهادئ من جنوب لبنان. هكذا، وبعد 14 ساعة على اغتيال هاشم، أصيب الصّهاينة بصدمة كبيرة، إذ توّجت المقاومة عمليّتها بإصابة قافلة عسكريّة بصاروخين. لم يكن يمر يوم قبل الإنسحاب في أيّار، إلاّ ويسجل ضربات، واقتحامات موجعة. لقد خاضت المقاومة عملية مطاردة مدروسة ضدّ العناصر، والمواقع العميلة في الشّريط الحدودي المحتل.
ألهمت عمليات المقاومين أبناء المنطقة المحتلّة، فقام الجنوبيون في الواحد والعشرين من أيار بالدّخول إلى قراهم. كان عماد مغنية يدخل مترجلاً مع الجنوبيين إلى قراهم، يتنقل من قريةٍ إلى أخرى، متجّهًا نحو الحدود الفلسطينية. صبيحة الخامس والعشرين من أيار، حقّق عماد أمنيته بالوصول إلى الشّريط اللّبناني. هناك عند أعلى تلة في بلدة مركبا وقف ليحقّق أمنيته، فاستنشق هواء فلسطين للمرّة الأولى. وفي وسط فرحته العارمة، قام بقصّ جزءٍ من السّلك الحدودي….. لقد صار حلم تحرير فلسطين قابلاً للتّحقّق.
2000-2006: في الإعداد للحرب القادمة
عاد إسم عماد مغنيّة إلى التّدوال، وبقوّة، في دوائر الإستخبارات العالميّة، والإسرائيليّة خاصةً. أُدرج اسمه هذه المرة في ملف تهريب الصواريخ إلى غزة. بدأ الحاج عماد بتشكيل وتأهيل الشّباب الفلسطيني وتدريبه في القطاع. وأسس النّواة الأولى لخلايا سرايا القدس وكتائب النّاصر صلاح الدين.
وفي صبيحة 21 أيّار 2001، ضجّت الصحف الإسرائيلية بالباخرة سانتوريني التّي أوقفت شمال المياه الإقليميّة الفلسطينية. كانت الباخرة في مهمتها الرابعة على التّوالي. وفي أيّار 2002، تمّ الكشف عن سفينة “كارين أي” التي ألقي القبض عليها على بعد 300 ميل من إيلات داخل البحر الأحمر بعد جهودٍ استخباريّة أميركيّة وصهيونيّة. شكّلت هذه السّفينةدليلاً واضحًا على علاقة قويّة ربطت الحاج عماد بحركة فتح وبقائدها “الختيار” ياسر عرفات.
بعد إقرار إسرائيل بعجزها عن تجفيف خطوط إمداد السّلاح للفلسطينيّين، باشرت أولى انسحاباتها في 15 آب 2005 من قطاع غزة بعد ثمانية وثلاثين عاماً على إحتلاله.
دأب الحاج عماد على الإعداد للحرب المقبلة. فصاغ وأخوانه في المجلس الجهاديّ إستراتيجيّة جديدة بعد تحرير أيّار 2000. فبالإضافة إلى تدريب وتطوير الكادر البشري على المستوى العسكريّ والأمنيّ والثقافيّ والروحيّ، أسّس الحاج رضوان لنقلة نوعيّة في الترسانة الصاروخيّة للمقاومة. كما عمل على تطوير الأسلحة والتّقنيات معتمدًا على “الاستطّلاع المباشر”، فصدم العدوّ والصّديق بمفاجآت حرب تموز 2006 [تدمير البارجة ساعر 5، مجزرة الميركافا]. كما عمد إلى تأسيس البنية التحتيّة اللاّزمة: حفر الأنفاق، تطوير شبكة الإتصالات والمعلوماتيّة، الإستشفاء وغيرها من الأمور.
لم يغفل الحاج عماد أهميّة “حرب المعلومات”، لذا سعى لكسر احتكار الغرب للمعلومات، وخصوصًا الأمنيّة منها. فأسّس وحدة متخصّصة بالعمل على رصد وترجمة الدّراسات الأمنيّة العلميّة، والتّقارير البحثيّة والإعلاميّة الغربيّة والعبريّة. كان يتابع كلّ التّفاصيل المتعلّقة بالعدوّ، وبترسانة أسلحته، وبواقعه العسكريّ. كان يريد أنّ يفهم بنية إسرائيل، ومجتمعها، واقتصادها، وثقافتها، وإعلامها، وكلّ ما يتعلّق بها. كذلك، أولى شبكة اتّصالات المقاومة اهتمامًا خاصًا، وعمل على تطويرها بالتّعاون مع العقل اللاّمع الشّهيد القائد حسّان لقيس.
كان انتصار أيّار 2000 هو الإنتصار العربيّ الأول منذ نكبة فلسطين( 1948) ترك هذا الإنتصار أثره البالغ على الشّعوب العربيّة والإسلامية. وكعادته، أظهر الحاج عماد عبقريّة في استثمار الإنتصار إعلاميًا، فأكّد على حضور الإعلام، وأتاح عقد لقاءات مع المجاهدين، كما شجّع على تنظيم زيارات شعبيّة، وحزبيّة إلى مواقع المقاومة، وإلى المناطق المحرّرة. في المقابل، عمل الحاج عماد على تأمين كامل الحدود عبر قيام المقاومةبعملية إنتشار تواكب حركة اندحار العدوّ. وبعد أشهر قليلة [ 7 تشرين الأوّل 2000 ] من الإنسحاب الإسرائيلي المذلّ، وجّهت المقاومة ضربة قاسية لجيش الإحتلال عندما تمكنت من أسر ثلاثة جنود في عملية نوعيّة، إثر مهاجمتها دوريّة إسرائيليّة بالقرب من مزارع شبعا.جاءت العمليّة كتأكيد واضح على استمراريّة المقاومة حتّى استئصال إسرائيل من الوجود.
الإنتفاضة الثانية
أراد الحاج عماد من العمليّة التّخفيف عن الجبهة الفلسطينية بعد اندلاع الإنتفاضة الثّانية في أواخر شهر أيلول عام 2000 . شكّلت الإنتفاضة استجابةّ لغليان الشّارع الفلسطينيّ، ومعاناته اليوميّة، وتردّدًا طبيعيًا لصدى الإنتصار في الجنوب اللّبناني. شعر الشارع العربي، وللمرّة الأولى أنّه قادر على “الفعل”، وعلى تحقيق النّصر،وأنّ مفتاح تغيير التاريخ بات بين يديه.فأثبتت المقاومة أنّها خيار “المنطق”، و”العزّة” في آن، وأنّها البديل الواقعيّ لعملية السلام المذلّة. عمل الحاج عماد على مساعدة الإنتفاضة الفلسطينيّة بكلّ ما أوتي من قوّة، ولم يقتصر هدفه على تثبيت الوجود الفلسطينيّ، إنّما تجاوزه للعمل على دحر الإحتلال. تفاعلت الجماهير العربيّة في استجابة لحقيقة تحدّث عنها الحاج رضوان، إذ قال أنّه “بعد التّحرير عام 2000 ، وعندما تيسّر لنا التّعرّف أكثر إلى العدوّ وقدراتنا نحن، صار حلم فلسطين قابلًا للتّحقّق. لقد أنشأنا لجنة لإزالة إسرائيل. وفي المقاومة، عندنا ثمّة وحدة خاصّة بفلسطين. نحن لا نقوم بالعمل عن الفلسطينيين، ولن نفعل ذلك. لكننا في موقع سياسيّ وأخلاقيّ ودينيّ يوجب علينا توفير كلّ المستلزمات للمقاومين في فلسطين، ليس فقط لمساعدتهم على البقاء حيث هم الآن، بل لمقاومة الإحتلال ودفعه إلى الخروج ولو تدريجيًا من الأراضي المحتلّة”.
كان الحاج عماد رؤيويًا، ويتمتّع بنظرة ثاقبة على مستوى تنظيم وإدارة العمل العسكري. كان يملك مهارة “الإدارة العسكريّة”، وقام بتطوير البنية العسكريّة للمقاومة في لبنان وفلسطين. نحى منحى التّخصّص في العمل الميداني [معلومات، تدريبات، استخدام الأسلحة،…]، وكانت له اقتراحات أسهمت في تطوير الترسانة المستخدمة. إذ كان يبتكر، وكانت بعض ابتكاراته تخالف القوانين العلميّة للأمور، لكنّها أثبت نجاحها وفاعليّتها!
المقاومة العراقية
كان الحاج عماد معنياً بكلّ حركات المقاومة في المنطقة، فعمل على إنشاء جيوش رديفة” لدحر الإحتلال من العالم العربيّ والإسلامي. بعد دخول الإحتلال الأميركيّ إلى العراق[ 2003 ]، عمل على نقل الخبرات للمقاومة العراقيّة، من الألف إلى الياء. عمل الحاج رضوان على تنظيم بنية كتائب وفصائل المقاومة العراقيّة، وعلى تدريب المجاهدين، ومدّهم بالأسلحة. كان “مدرسةً متكاملة”، “تنظيم متجسّد في رجل”. سعى لاستنساج تجربة المقاومة اللبنانية في عمليّاتها النّوعيّة، فكانت باكورة هذا التّعاون تفجيرات ممهورة بإمضائه شكلًا ومضمونًا، وبنفس الأسلوب المعتمد لدى مجاهدي المقاومة الإسلاميّة. كان يهدف لإيصال رسالة للإحتلال مفادها أنّ “حزب الله وجميع المقاومات في المنطقة، على اختلاف أطيافها تشكّل جبهة واحدة عدوّها المشترك: إسرائيل والولايات المتّحدة الأميركيّة”.كذلك خطّط لعمليّة نوعيّة لأسر جنود أميركيين، وسعى لتكريس أسلوب جديد من العمليّات الأمنيّة الخفيّة، بشكل يرجّح كفّة النّوعيّة على الكميّة.
ملحمة تموز 2006 : البساطة مقابل التعقيد
في تموز 2006، قاد الحاج عماد أشرس معركة على الإطلاق ضدّ العدو الإسرائيليّ. هدفت الحرب الإسرائيلية إلى تدمير قوّة حزب الله المتعاظمة بعد انتصار أيّار من العام 2000. بدأت المعركة في 12 تمّوز، إثر اختطاف جنديين صهيونيين، وتوقّفت في 14 آب 2006، فكان ختامها “إنتصارٌ إلهيّ” هو الأهم في تاريخ الصّراع. لقد كرّست هذه الحرب القائد عماد مغنيّة “قائد الإنتصارين بحق” بتعبير الأمين العام لحزب الله.
كان الحاج طيلة أيّام حرب تموز مشغولاً بإدارة جبهة القتال. كان صائمًا طوال أيام الحرب. وتابع كلّ تفاصيل الأعمال العسكريّة من قتال، ودعم، ومواكبة لسير العمليات، وتحديدٍ لتوقيت “المفاجآت”. كانت أولى أولويّاته حماية قيادة حزب الله، فكان حريصًا على تفقّد أخوته المجاهدين حتى أولئك الذين لا علاقة لهم بالميدان. كما كان شديد الحرص على سلامة الأمين العام للحزب السّيد حسن نصر الله.
بالنّسبة له، لم يكن السّيد نصر الله مجرّد قائدٍ للحزب. كانا رفيقين في درب المقاومة والجهاد. تشابها في الأخلاق والخصال، وعملا بتناغم وصل حدّ التطابق في الرؤى والتطلعات. لقد حرص الحاج عماد أنّ يبقى السيّد نصر الله “صادق الوعد” فعمل على تحقيق كلّ وعوده وتهديداته. في المقابل، كان السيّد يثق تمام الثّقة بأنّ الحاج رضوان لن يخذله أبدًا.
في 12 شباط 2008، ارتقى الحاج عماد شهيداً، في عمليّة اغتيال صهيونيّة في منطقة “كفرسوسة”، إحدى ضواحي العاصمة السورية دمشق. استغرقت مطاردته ثلاثة عقود وامتدّت على ثلاثة قارّات، ودوّن حولها العديد من المؤلّفات.
ظهر “قائد الظّل” بعد 25 عامًا من المطاردة، والتعقّب، وتبادل المعلومات بين أكثر من 40 جهاز إستخباراتي عالميّ على رأسها الاستخبارات الاسرائيليّة “الموساد” والاستخبارات الأميركية CIA. وشكّل ظهوره العلنيّ الأول صدمةً إيجابيّةّ بالرّغم من مرارة الفاجعة. فهو ظهر آسراً، ساحراً، فسرق الأرواح والألباب بملامحه الملائكيّة.
ارتقى جهاد عماد مغنيّة شهيداً. شابَهَ الشّابُ أباه قلباً وقالبًا، فوفى بعهدٍ قطعه لوالده وقائده في أربعينيته. فاستشهد جهاد مع خمسة من رافقه المجاهدين خلال مهمة استطلاعية في مزرعة الأمل في القنيطرة إثر تعرضهم لغارة إسرائيلية في 18 كانون الثاني 2018.
كان ظهور جهاد العلني الأول خلال مراسم تشييع والده، حينها كان يبلغ من العمر 17 عاماً. صعد المنبر وخاطبه: “مثلك يا حاج عماد لا يموت إلا شهيدًا”، وأقسم أنّه سيكمل الطريق. كانت إطلالة قصيرة، لكنّها سرعان ما رسخت في وجدان وعقول الشّباب من أبناء جيله. لقد تميّز بحماسةٍ وجرأة واضحة تجسّدت في أسلوب خطابه وفحواه، فكانت شهادته وفاءً للعهد والنّهج.